الصفحات

السبت، 29 ديسمبر 2012

الشيخ يوسف القرضاوي بمناسبة تقديم كتاب تكملة "فتح الملهم"مشيدا شبه القارة الهندية


تقديم كتاب تكملة "فتح الملهم" للشيخ محمد تقي العثماني
 بقلم :العلامة الشيخ يوسف القرضاوي 
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا وإمامنا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
(أما بعد)
فإن السنة النبوية المشرفة هي المصدر الثاني للإسلام بعد القرآن الكريم، وهي البيان النظري، والتطبيق العملي لكتاب الله، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل:44].
وقد هيأ الله عز وجل لهذه السنة المطهرة في كل عصر وفي كل مِصْر رجالاً، يخدمونها بأنواع شتى من الخدمة: جمعاً لها، وذبّاً عنها، وردا للمفتريات عليها، ودفعا للشبهات عنها، وتصنيفا لكتبها، وتعريفا برواتها، وتمحيصا لأسانيدها، وشرحا لمتونها، ونشرا لدعوتها، وتبليغا لرسالتها، وتعليما لحقائق عقائدها، وأسرار شرائعها، ومكارم أخلاقها، ومحاسن آدابها.
وقد كان لعلماء شبه القارة الهندية التي تشمل اليوم الهند وباكستان وبنجلاديش نصيب وافر من خدمة السنة: تحقيقا وتخريجا وتعليقا وشرحا ونشرا.
ولا زال العالم الإسلامي في مشرقه ومغربه ينتفع بالمصادر والكتب الحديثية التي نشرت أول ما نشرت على يد علماء الهند، في حيدر آباد وغيرها، وقد صورت بعد ذلك في بلاد شتى، طبق الأصل الهندي.
وكان لهؤلاء العلماء الأجلاء في مجال الشرح والتعليق لكتب السنة المعروفة والمتداولة سهم وافر، ونصيب مرموق، وخصوصا الكتب الستة والموطأ، ومشكاة المصابيح، وغيرها.
وقد نوه الداعية الإسلامي الكبير العلامة أبو الحسن علي الحسني الندوي – أمد الله في عمره في خدمة الإسلام- ببعض ما قام به علماء الهند الكبرى في خدمة السنة وشرحها في تقديمه لكتاب (بذل المجهود في حل أبو داوود) للعلامة المحدث الكبير الشيخ خليل أحمد السهار نغوري، ولكتاب (أوجز المسالك إلى موطأ مالك) للعلامة شيخ الحديث مولانا محمد زكريا الكندهلوي، فأغنانا - حفظه الله- بهذا التقديم الجامع النافع عن التنبيه على ذلك أو التذكير به.
ومن المعلوم المقرر لدى علماء الأمة أن صحيحي البخاري ومسلم هما أعظم كتب السنة، وأصح كتب الإسلام بعد القرآن. ولكل منهما مزاياه وخصائصه، كما يعرف ذلك أهل العلم الحديث.
ولكن صحيح البخاري حظي من عناية العلماء بالشرح والتحليل والاستنباط أكثر مما لقيه صحيح مسلم قديما وحديثا.
ومن قرأ كتابا مثل (كشف الظنون على أسامي الكتب والفنون) وجد شروح البخاري أضعاف شروح مسلم.
ولعلماء الهند في شرح البخاري: (عون الباري)، للملك العالم صديق حسن خان، و(فيض الباري) لمحدث عصره الفقيه العلامة الشيخ أنور الكشميري و(لامع الدراري) للفقيه المحدث الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي.
ولهم في شرح مسلم (السراج الوهاج) لصاحب (عون الباري) ثم هذا الشرح المسمى( فتح الملهم بشرح صحيح الإمام مسلم) للعلامة المحدث الفقيه مولانا شبير أحمد العثماني، الذي قدر الله أن يوافيه الأجل قبل أن يكمله، وإنما بلغ إلى آخر كتاب النكاح.
وقد ادخر القدر فضل إكماله وإتمامه إن شاء الله لعالم جليل من أسرة علم وفضل (ذرية بعضها من بعض) هو الفقيه ابن الفقيه، صديقنا العلامة الشيخ محمد تقي العثماني، ابن الفقيه العلامة المفتي مولانا محمد شفيع رحمه الله وأجزل مثوبته، وتقبله في الصالحين.
وقد أتاحت لي الأقدار أن أتعرف عن كثب على الأخ الفاضل الشيخ محمد تقي، فقد التقيتُ به في بعض جلسات الهيئة العليا للفتوى والرقابة الشرعية للمصارف الإسلامية. ثم في جلسات مجمع الفقه الإسلامي العالمي، وهو يمثل فيه دولة باكستان، ثم عرفته أكثر فأكثر، حين سعدت به معي عضوا في الهيئة الشرعية لمصرف فيصل الإسلامي بالبحرين، والذي له فروع عدة في باكستان.
وقد لمست فيه عقلية الفقيه المطلع على المصادر، المتمكن من النظر والاستنباط القادر على الاختبار والترجيح، والواعي لما يدور حوله من أفكار ومشكلات – أنتجها هذا العصر- الحريص على أن تسود شريعة الإسلام وتحكم في ديار المسلمين.
ولا ريب أن هذه الخصائص تجلت في شرحه لصحيح مسلم، وبعبارة أخرى: في تكملته لفتح الملهم.
فقد وجدت في هذا الشرح: حسن المحدث، وملكة الفقيه، وعقلية المعلم، وأناة القاضي، ورؤية العالم المعاصر، جنبا إلى جنب.
ومما يذكر له هنا: أنه لم يلتزم بأن يسير على نفس طريقة شيخه العلامة شبير أحمد كما نصحه بذلك بعض أحبابه، وذلك لوجوه وجيهة ذكرها في مقدمته.
ولا ريب أن لكل شيخ طريقته وأسلوبه الخاص، الذي يتأثر بمكانه وزمانه وثقافته، وتيارات الحياة من حوله. ومن التكلف الذي لا يحمد محاولة العالِم أن يكون نسخة من غيره، وقد خلقه الله مستقلا.
لقد رأيت شروحا عدة لصحيح مسلم، قديمة وحديثة، ولكن هذا الشرح للعلامة محمد تقي هو أولاها بالتنويه، وأوفاها بالفوائد والفرائد،وأحقها بأن يكون هو (شرح العصر) للصحيح الثاني.
فهو موسوعة بحق، تتضمن بحوثا وتحقيقات حديثية، وفقهية ودعوية وتربوية.
وقد هيأت له معرفته بأكثر من لغة، ومنه الإنجليزية، وكذلك قراءاته لثقافة العصر، واطلاعه على كثير من تياراته الفكرية، أن يعقد مقارنات شتى بين أحكام الإسلام وتعاليمه من ناحية، وبين الديانات والفلسفات والنظريات المخالفة من ناحية أخرى، وأن يبين هنا أصالة الإسلام وتميزه، كما فعل في مقدمة كتاب الطلاق .
ومثل ذلك حديثه في مقدمة كتاب العتق عن (الرق في الإسلام) . وحديثه عن (الاقتصاد في الإسلام) في مقدمة كتاب البيوع، وبيان فضل هذا الاقتصاد، وحقيقة الثروة والملكية، ونقد الرأسمالية والاشتراكية..الخ .
ومن ذلك حديثه عن (مسألة ملكية الأرض) ، وهو يشرح حديث جابر: "من كانت له فضل أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه" . ورده على بعض المستغربين الذين يتعسفون في الاستدلال بمجملات القرآن، على منع ملكية الأرض .
ونحو ذلك حديثه في باب الحوالة عن الأوراق المالية الرائجة والكمبيالات والشيك المصرفي والعملة الورقية، وما إلى ذلك .
وأمثال ذلك كثر في كتب وأبواب شتى.
ومما يذكر لصاحب التكملة هنا بالثناء والتقدير:
حرصه على نقل المذاهب والأقوال بأمانة، وعرضها بأدلتها بإنصاف، وترجيحه ما يوجبه الدليل منها، وإن كان غير المذهب الحنفي الذي هو مذهبه ومذهب أسرته وأهل بلده، والذي نشأ عليه وتعمق في الإطلاع عليه أصولا وفرعا.
كما في تعليقه على ثبوت خيار الرد للمشتري في حديث (المصرّاه) وأن صدره لا ينشرح بأنه لم يكن شرعا عاما، وأنه لا مخالفة فيه للأصول الصحيحة، وما قاله الحنفية في تقسيم اللبن إلى ما كان وقت العقد، وما حدث بعده، لا يبدو كافيا في صرف الحديث عن ظاهره . ومن ذلك ترجيحه مذهب الصاحبين والجمهور من وجوب القصاص بالقتل بالمثقل في زماننا الذي كثر فيه القتل.
ونحو ذلك ترجيحه ثبوت أحاديث القضاء بشاهدين، وحملها على أحوال العذر التي لا يتيسر فيها الحصول على نصاب الشهادة الذي أرشدت إليه آية سورة البقرة { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}[البقرة:282] .
وتأييده لفتوى المتأخرين من علماء الحنفية بالأخذ بقول الشافعية في مسألة الظفر المعروفة. ونقل عن شارح الكنز (الحموي) وعن صاحب (الدر المختار) وعن ابن عابدين، ما يدل على ذلك ، إلى غير ذلك من الأمثلة.
ولا أنكر أن هذه الأمثلة ليست كثيرة في الكتاب، ولكنها موجودة، وهي بالنسبة لمن يعرف المدرسة الهندية ومدى تمسكها بالمذهب الحنفي، والمبالغة في تأييده والانتصار له، لها قيمتها ودلالتها على إنصاف صاحبها وتحرره من غلو العصبية المذهبية إلى حد كبير.
ومما أعجبني هنا نقله عن والده العلامة محمد شفيع، رحمه الله، تلك الكلمة المخلصة المضيئة بنور الحق، حيث قال لجماعة من الطلاب: لا بأس أن تكونوا حنفية في مذهبكم الفقهي، ولكن إياكم أن تتكلفوا جعل الحديث النبوي حنفيا!
فما أصدقها من نصيحة، وما أبلغها من كلمة!
إن الكتاب حافل بالعلم، ثري بالتحقيق، يلمس قارئه جهدا صادقا مضنيا، بذله صاحبه، غير ضنين به، ولا متثاقل عنه، كل ذلك بأسلوب بين وبعد عن الألغاز والتعقيد.
فجاء بحمد الله وتوفيقه جامعا بين الأصالة والمعاصرة، محققا لآمال كثير من طلاب العلم، وعشاق السنة، ومحبي الفقه.
قد أخالف المصنف حفظه الله في بعض ما ذهب إليه أو اختاره ورجحه من أحكام وآراء، وهذا أمر طبيعي نظرا لاختلاف البيئة التي نشأ فيها كلانا بمؤثراتها الفكرية والنفسية والاجتماعية، والإنسان – وإن بلغ من العلم ما بلغ- ابن زمانه ومكانه وثقافته، وهذه سنة الله في البشر. ولكن لا يملك المرء مع هذا الاختلاف – وهو قليل- إلا أنه يحترم علم المؤلف ورأيه، ويقدر اجتهاده وإخلاصه، ويثني على حرصه على طلب الحق والبحث عنه بكل ما يستطيع.
وقد اقترح عليه حين يطبع الكتاب كله من جديد أن يضيف من (كيسه) حواشي وتعليقات على شرح العلامة شبير، تقرب القسم من الكتاب بالقسم الأخير منه. كما أود ضبط متون الأحاديث من صحيح مسلم بالشكل، مساعدة للقارئ على قراءتها قراءة صحيحة.
شكر الله لصديقنا العلامة، وجزاه عن العلم والفقه والسنة خير ما يجزي به العلماء الصادقين، وجعلنا وإياه من الذين يعلمون فيعملون، ويعملون فيُخلصون، ويُخلصون فيقبلون.              وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدوحة: جمادى الأولى1412هـ                         الفقير إلى عفو ربه
الموافق:  نوفــمبر1991م                              يوسف القرضاوي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق